بسم الله الرحمن الرحيم
حياض الجنة
الحمد لله، قضى ألا تعبدوا إلاَّ إيَّاه، لا مانع لِمَا أعطاه، ولا رادَّ لِمَا قضاه، ولا مظهر لما أخفاه، ولا ساتر لما أبداه، ولا مضلَّ لمن هداه، ولا هاديَ لمن أعماه، سبحانه خلق آدم بيده وسوَّاه، وأمره ونهاه، ثم تاب عليه ورحمه واجتباه، حاله ينذر من سعى فيما اشتهاه، طرد إبليس فأصمَّه وأعماه، وأبعده وأشقاه، وفي قصَّته نذير لمن خالف الله وعصاه. أشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، أخذ موسى من أمِّه طفلا ورعاه، وساقه إلى حِجْر عدوِّه فربَّاه، وجاد عليه بالنِّعم وأعطاه، فمشى في البحر وما ابتلَّتْ قدماه، وأهلك عدوَّه بالغرق وَوَارَاه، خرج يطلب نارًا فشرَّفه الله وناداه. (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي)
حمدًا لمن نبيه قد بعث *** فدوَّخت بعوثه مَن قد عفى
ثم الصلاة والسلام ما حكت *** حمائم حمائمًا إذا بكت
وهزَّت الغصون أنفاس الصبا *** فهيَّج صبابة لمن صبا
وَلَمَعَ البرق إذا الغيث وكب *** وطاف بالبيت منيب واعتكب
على أجلِّ مُرْسَلٍ وآله *** وصحبه وتابعي من واله.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مسْلِمُونَ) عباد الله؛ إنَّ النَّاظر بعين البصر والبصيرة إلى الخلق يجد عجبًا، يجدهم غادِين جادِّين في بيع أنفسهم؛ ففائز رابح، ومَغْبُون خاسر، فرابح قد رجحت ميزانه، وخاسر أَوْبَقَهُ عدوانه، رابح دان نفسه وحاسبها، وعمل لما بعد الموت فزكى، صعد بها وارتقى، وخاض المتاعب وركب الأهوال وانتقى، وإلى العلياء ارتقى، فكان الكيِّس العاقل الفاطن ذا الذكا. خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى. فآفة المرء الهوى، فمن علا على هواه عَقْلُه فقد نجا. أعتق نفسه وشرَّفها، وزكَّاها، وقد أفلح من زكَّاها.
فأَرْبِحْ بها من صَفْقَةٍ لمبايع *** وأَعْظِمْ بها أعظم بها ثمَّ أعْظِمِ
وخاسر نَسِيَ مصيره فانغمس في المحرَّمات على غير بصيرة، أقبلَ على الدنيا لاهِثًا في شَرَهِ بهيمة، يجيد السباحة من أجلها في كل بحر، ويلبس لها أكثر من ثوب، ويمثِّل بها أكثر من دور، ويتكلم لها بأكثر من لسان، ويركب لها كل مطيَّة. باع دينه بعَرَضٍ منها، وهبط والهبوط هيِّن، والهابط لم تكن نفسه يومًا أَبِيَّةٌ، أتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله الأماني حتى داهمته المنيَّة.
فَهَمُّه في اليوم أكلٌ وكِسَا *** وهَمُّه بالليل خَمْرٌ ونِسَا
خاب عاجز خائر بَائِر، خسر نفسه فأوبَقَهَا وأهلكها، وبثمن بخسٍ باعها، فيا لها من رزيَّة! دسَّاها وقد خاب من دسَّاها.
فكان كفائق عينيه عمدًا *** فأصبح لا يضيء له نهار
بل كان كالحمار لا يُزكَّى *** فيدفع الجوع ولا يُزكَّى
شاد للأولى فهلا *** كان للأخرى يشيد
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ للْعَبِيدِ) لا نعجب من خطئه، واتباع هواه معشر المؤمنين؛ إذ لا عجب ولا غرابة أن يخطئ الإنسان، وتصدر منه الإساءة والسَّفه، والجهل والظلم، فكل ابن آدم خطَّاء، والمعصوم من عصمه الله، لكن العجب منه يوم، يدرك خطأه وإساءته وسفهه وجهله وظلمه، ثم يظل متلبسًا بذلك، مصرًّا عليه، آمنا مكر الله به، ووعيده له. (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) يقول [ابن القيم] -رحمه الله-: الذنب بمنزلة شرب السمِّ، والتوبة تِرْيَاقُه ودواؤه، والطَّاعة هي الصحة والعافية، وصحة وعافية مستمرة خير من صحة يتخللها مرض وشرب سمٍّ، وصحة يتخللها مرض وشربُ سمٍّ خير من بلاء دائم.
من حاد حب الكمال تعنُّتًا *** يتبدل الأدنى ويبقى الأحقرَ
فاغتنم حياتك عمرك فلكل *** غادٍ روحة ولكل وضَّاءٍ سِرَار
يا من بدرت منه الخطيئة وكلنا ذاك، عودة عودة إلى أفْيَاء الطاعة، الباب مفتوح، والظل والرخاء من وراء الباب فالزم سُدة الباب، وقم في الدُّجى، واصرخ بلسان الذُّل، مع وجيف القلب، وواكف الدَّمع، يا أيها العزيز مسَّنا وأهلنا الضُّرُّ. هيا فالنَّفَس يخرج ولا يعود، والعين تطرف ولا تطرف الأخرى إلا بين يديْ العزيز الحميد، فلابد من ساعة طاهرة، تكون الرؤوس بها فاغرة، إذا استوفت النفس مكيالها، وزُلْزِلت الأرض زلزالها، فما لك من فرصة للإياب، ولن يرجع العمر بعد الذهاب، تقدم فما زال للصلح باب، وبالموت يغلق باب المتاب (وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا)
رِيدِي حياض النجا يا نفس واطَّرحي *** حياض حبِّ الهوى للشاء والنَّعِمِ
بادر قبل أن تُبَادَر، بادر بالإقلاع عن الذنب بشعور بالألم، يقضُّ المضاجع، ويؤرِّق المنام، ويقرِّح الجفون، ويزرع في القلب الحسرة والندامة، مع عزم أَكيد على استئناف حياة صالحة نقية تقية طاهرة. بادر فإن تأخير التوبة من الذنب ذنب يحتاج إلى توبة (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن) بادر فإن الذنب يجر إلى الذنب، فكم من ذنب صغير كانت النهاية معه بالتسويف أن يُحال بين صاحبه وبين قلبه، وقد يُسلَب إيمانه فبادر. أرأيت لو أن رجلا أُمِرَ باقتلاع شجرة باسقة، كبيرة أصولها وهو شاب، فرآها كبيرة فهابها، وقال: فلندعها إلى الغد، فلمَّا جاء الغدُ قال: لندعها إلى العام القادم، إلى الذي يليه، إلى الذي يليه، فإنه بمرور الوقت تضعف قوته ويخور، ثم لا يستطيع بعدها قلعها، فما لا تقدر عليه في الشباب لا تقدر عليه غالبًا وقت المشيب.
فمن العناء رياضة الهَرِم *** ومن التعذيب تهذيب الدِّيب
والقضيب الرطب يقبل الحَنَا فإن جفَّ وطال عليه الزَّمن صعب واستعصى، والغصن أقرب تقويمًا من الخشب وما عجزت عنه اليوم قد تكون غدًا أشد عجزًا.
فلا تُبقِ فعل الصالحات إلى غدٍ *** لعل غدًا يأتي وأنت فقيد
فبادر. يُفعل الذنب فَيَخْلَقُ الإيمان في القلب، كما يَخْلَق الثوب، ثم يُغلَّف بالرَّان فيذبل، ثم يقسو (فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم من ذِكْرِ اللهِ) ثم يموت، وعندها يُحْرم الإنسان لذَّة مناجاة الله، فعباداته بعد ذلك آليَّة لا روح فيها، لا تزكِّي نفسه، ولا تطهِّر رجْسَه، تلك عقوبة وبلية أي بلية، ثم ينسى القرآن إن كان معه شيء من القرآن، ثم يَهْمِل الاستغفار، ثم يحرص على الذنب مع عدم التلذذ به، كلما حاول أن يعود أُرْكِسَ في ذنبه مع همٍّ وغمٍّ وحزن وخوف وذلٍّ لا يفارقه، أبى الله إلا أن يذلَّ مَنْ عصاه.
ذكر الحافظ [ابن كثير] -رحمه الله- في البداية، في حوادث سنة ثماني وسبعين ومائتين ما يلي بتصرف، قال: وفيها توفي [ابن عبد الرحيم] -قبَّحه الله- هذا الشقي، كان من المجاهدين كثيرًا في بلاد الروم، فلمَّا كان في بعض الغزوات، والمسلمون يحاصرون بلدة من بلاد الروم؛ إذ نظر إلى امرأة من نساء الروم في ذلك الحصن، ما غضَّ بصره، والله يقول: (قُل للْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِن اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) أتْبَع النَّظْرة النظرة، والنظرة سهم مسموم من سهام إبليس، كم نظرة ألقت في قلب صاحبها البلابل والآلام والحسرات.
كان كمن أدخل في جحر يدا *** فأخطأ الأفعى ولاقى الأسْوَدَ
نظر فهَوِيَهَا، ثم راسلها، هل إليك من سبيل؟ فقالت: لا سبيل إلا أن تتنصر وتتبرأ من الإسلام، ومن محمد –صلى الله وسلم على نبينا محمد- فأجابها، وقال –ونعوذ بالله مما قال-: هو بريء من الإسلام، ومن محمد، وتنصَّرَ وصعد إليها. لا إله إلا الله، نعوذ بالله من الحَوَر بعد الكَوَر، نعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى، نعوذ بالله أن نردَّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله. المعاصي بريد الكفر، المعاصي بريد الكفر. كم من معصية جرَّت أختها وأختها وأختها، حتى كانت النهاية أن سُلب إيمان العبد، وهذا مَثَلٌ من الأمثلة. ما راع المسلمين إلا وهو عندها، فاغتمَّ المسلمون لذلك غمًّا شديدًا، وشق عليهم ذلك مشقة عظيمة، صَدْرٌ وَعَى القرآن يعود ليعبد الصُّلبان، لما كان بعد فترة مرُّوا عليه، وهو مع تلك المرأة في ذلك الحصن، عليه ذلّ الكفر وغبرته وقترته، فقالوا: يا [ابن عبد الرحيم] ما فعل علمك؟ ما فعلت صلاتك؟ ما فعل صيامك؟ ما فعل جهادك؟ ما فعل القرآن؟ فقال في حمأة ذل الكفر: أُنْسِيتُه، ما معي منه سوى آيتين، لكأنه المَعْنِيُ بهما (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ولقد صار لي فيهم مال وولد؛ يعني صار منهم (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، يا مصرِّف القلوب اصرف قلوبنا إلى طاعتك، يا رب ثبتنا على الإيمان، ونجِّنَا من سُبُل الشَّيطان. نسألك اللهم حُسْن الخاتمة؛ فهي –وربي- لحظات حاسمة. ونسأل الله لنا السعادة والفوز عند الموت بالشهادة. بادر قبل أن تُبَادَر. هل تنتظر إلا غنى مطغيًا، أو فقرًا منسيًا، أو هِرَمًا مفنِّدًا، أو موتًا مُجْهِزًا، أو الدَّجال فشَرُّ غائب ينتظر، أو الساعة، والساعة أدهى وأمَرُّ. إن أول قدم في الطريق بَذْل الروح، فإن كنت تستطيع على بذل الروح فتعال وبادر، وإلا فاذهب والْعب مع اللاعبين حتى يأتيك اليقين. بادر قبل أن تبادر، واصدق الله في توبتك، واجعلها نصوحًا خالصة؛ فإن الله يدعوك في عداد المؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ) ويَعِد بالفلاح على ذلك فيقول: (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
فلو داواك كل طبيب داءٍ *** بغير كلام ربي ما شفاك
الصادق في توبته لا يزال ذنبه نصب عينيه، خائفًا منه، مُشْفِقًا، وَجِلا، باكيًا، نادِمًا مستحيًا من ربه، نَاكِسًا الرأس بين يديه، دائم التَّضَرُّع إليه، واللجوء إليه، حتى يقول عدو الله إبليس: ليتني تركتُه فلم أوقعه في ذلك الذنب.
حمدًا لمن نبيه قد بعث *** فدوَّخت بعوثه مَن قد عفى
ثم الصلاة والسلام ما حكت *** حمائم حمائمًا إذا بكت
وهزَّت الغصون أنفاس الصبا *** فهيَّج صبابة لمن صبا
وَلَمَعَ البرق إذا الغيث وكب *** وطاف بالبيت منيب واعتكب
على أجلِّ مُرْسَلٍ وآله *** وصحبه وتابعي من واله.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مسْلِمُونَ) عباد الله؛ إنَّ النَّاظر بعين البصر والبصيرة إلى الخلق يجد عجبًا، يجدهم غادِين جادِّين في بيع أنفسهم؛ ففائز رابح، ومَغْبُون خاسر، فرابح قد رجحت ميزانه، وخاسر أَوْبَقَهُ عدوانه، رابح دان نفسه وحاسبها، وعمل لما بعد الموت فزكى، صعد بها وارتقى، وخاض المتاعب وركب الأهوال وانتقى، وإلى العلياء ارتقى، فكان الكيِّس العاقل الفاطن ذا الذكا. خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى. فآفة المرء الهوى، فمن علا على هواه عَقْلُه فقد نجا. أعتق نفسه وشرَّفها، وزكَّاها، وقد أفلح من زكَّاها.
فأَرْبِحْ بها من صَفْقَةٍ لمبايع *** وأَعْظِمْ بها أعظم بها ثمَّ أعْظِمِ
وخاسر نَسِيَ مصيره فانغمس في المحرَّمات على غير بصيرة، أقبلَ على الدنيا لاهِثًا في شَرَهِ بهيمة، يجيد السباحة من أجلها في كل بحر، ويلبس لها أكثر من ثوب، ويمثِّل بها أكثر من دور، ويتكلم لها بأكثر من لسان، ويركب لها كل مطيَّة. باع دينه بعَرَضٍ منها، وهبط والهبوط هيِّن، والهابط لم تكن نفسه يومًا أَبِيَّةٌ، أتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله الأماني حتى داهمته المنيَّة.
فَهَمُّه في اليوم أكلٌ وكِسَا *** وهَمُّه بالليل خَمْرٌ ونِسَا
خاب عاجز خائر بَائِر، خسر نفسه فأوبَقَهَا وأهلكها، وبثمن بخسٍ باعها، فيا لها من رزيَّة! دسَّاها وقد خاب من دسَّاها.
فكان كفائق عينيه عمدًا *** فأصبح لا يضيء له نهار
بل كان كالحمار لا يُزكَّى *** فيدفع الجوع ولا يُزكَّى
شاد للأولى فهلا *** كان للأخرى يشيد
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ للْعَبِيدِ) لا نعجب من خطئه، واتباع هواه معشر المؤمنين؛ إذ لا عجب ولا غرابة أن يخطئ الإنسان، وتصدر منه الإساءة والسَّفه، والجهل والظلم، فكل ابن آدم خطَّاء، والمعصوم من عصمه الله، لكن العجب منه يوم، يدرك خطأه وإساءته وسفهه وجهله وظلمه، ثم يظل متلبسًا بذلك، مصرًّا عليه، آمنا مكر الله به، ووعيده له. (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) يقول [ابن القيم] -رحمه الله-: الذنب بمنزلة شرب السمِّ، والتوبة تِرْيَاقُه ودواؤه، والطَّاعة هي الصحة والعافية، وصحة وعافية مستمرة خير من صحة يتخللها مرض وشرب سمٍّ، وصحة يتخللها مرض وشربُ سمٍّ خير من بلاء دائم.
من حاد حب الكمال تعنُّتًا *** يتبدل الأدنى ويبقى الأحقرَ
فاغتنم حياتك عمرك فلكل *** غادٍ روحة ولكل وضَّاءٍ سِرَار
يا من بدرت منه الخطيئة وكلنا ذاك، عودة عودة إلى أفْيَاء الطاعة، الباب مفتوح، والظل والرخاء من وراء الباب فالزم سُدة الباب، وقم في الدُّجى، واصرخ بلسان الذُّل، مع وجيف القلب، وواكف الدَّمع، يا أيها العزيز مسَّنا وأهلنا الضُّرُّ. هيا فالنَّفَس يخرج ولا يعود، والعين تطرف ولا تطرف الأخرى إلا بين يديْ العزيز الحميد، فلابد من ساعة طاهرة، تكون الرؤوس بها فاغرة، إذا استوفت النفس مكيالها، وزُلْزِلت الأرض زلزالها، فما لك من فرصة للإياب، ولن يرجع العمر بعد الذهاب، تقدم فما زال للصلح باب، وبالموت يغلق باب المتاب (وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا)
رِيدِي حياض النجا يا نفس واطَّرحي *** حياض حبِّ الهوى للشاء والنَّعِمِ
بادر قبل أن تُبَادَر، بادر بالإقلاع عن الذنب بشعور بالألم، يقضُّ المضاجع، ويؤرِّق المنام، ويقرِّح الجفون، ويزرع في القلب الحسرة والندامة، مع عزم أَكيد على استئناف حياة صالحة نقية تقية طاهرة. بادر فإن تأخير التوبة من الذنب ذنب يحتاج إلى توبة (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن) بادر فإن الذنب يجر إلى الذنب، فكم من ذنب صغير كانت النهاية معه بالتسويف أن يُحال بين صاحبه وبين قلبه، وقد يُسلَب إيمانه فبادر. أرأيت لو أن رجلا أُمِرَ باقتلاع شجرة باسقة، كبيرة أصولها وهو شاب، فرآها كبيرة فهابها، وقال: فلندعها إلى الغد، فلمَّا جاء الغدُ قال: لندعها إلى العام القادم، إلى الذي يليه، إلى الذي يليه، فإنه بمرور الوقت تضعف قوته ويخور، ثم لا يستطيع بعدها قلعها، فما لا تقدر عليه في الشباب لا تقدر عليه غالبًا وقت المشيب.
فمن العناء رياضة الهَرِم *** ومن التعذيب تهذيب الدِّيب
والقضيب الرطب يقبل الحَنَا فإن جفَّ وطال عليه الزَّمن صعب واستعصى، والغصن أقرب تقويمًا من الخشب وما عجزت عنه اليوم قد تكون غدًا أشد عجزًا.
فلا تُبقِ فعل الصالحات إلى غدٍ *** لعل غدًا يأتي وأنت فقيد
فبادر. يُفعل الذنب فَيَخْلَقُ الإيمان في القلب، كما يَخْلَق الثوب، ثم يُغلَّف بالرَّان فيذبل، ثم يقسو (فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم من ذِكْرِ اللهِ) ثم يموت، وعندها يُحْرم الإنسان لذَّة مناجاة الله، فعباداته بعد ذلك آليَّة لا روح فيها، لا تزكِّي نفسه، ولا تطهِّر رجْسَه، تلك عقوبة وبلية أي بلية، ثم ينسى القرآن إن كان معه شيء من القرآن، ثم يَهْمِل الاستغفار، ثم يحرص على الذنب مع عدم التلذذ به، كلما حاول أن يعود أُرْكِسَ في ذنبه مع همٍّ وغمٍّ وحزن وخوف وذلٍّ لا يفارقه، أبى الله إلا أن يذلَّ مَنْ عصاه.
ذكر الحافظ [ابن كثير] -رحمه الله- في البداية، في حوادث سنة ثماني وسبعين ومائتين ما يلي بتصرف، قال: وفيها توفي [ابن عبد الرحيم] -قبَّحه الله- هذا الشقي، كان من المجاهدين كثيرًا في بلاد الروم، فلمَّا كان في بعض الغزوات، والمسلمون يحاصرون بلدة من بلاد الروم؛ إذ نظر إلى امرأة من نساء الروم في ذلك الحصن، ما غضَّ بصره، والله يقول: (قُل للْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِن اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) أتْبَع النَّظْرة النظرة، والنظرة سهم مسموم من سهام إبليس، كم نظرة ألقت في قلب صاحبها البلابل والآلام والحسرات.
كان كمن أدخل في جحر يدا *** فأخطأ الأفعى ولاقى الأسْوَدَ
نظر فهَوِيَهَا، ثم راسلها، هل إليك من سبيل؟ فقالت: لا سبيل إلا أن تتنصر وتتبرأ من الإسلام، ومن محمد –صلى الله وسلم على نبينا محمد- فأجابها، وقال –ونعوذ بالله مما قال-: هو بريء من الإسلام، ومن محمد، وتنصَّرَ وصعد إليها. لا إله إلا الله، نعوذ بالله من الحَوَر بعد الكَوَر، نعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى، نعوذ بالله أن نردَّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله. المعاصي بريد الكفر، المعاصي بريد الكفر. كم من معصية جرَّت أختها وأختها وأختها، حتى كانت النهاية أن سُلب إيمان العبد، وهذا مَثَلٌ من الأمثلة. ما راع المسلمين إلا وهو عندها، فاغتمَّ المسلمون لذلك غمًّا شديدًا، وشق عليهم ذلك مشقة عظيمة، صَدْرٌ وَعَى القرآن يعود ليعبد الصُّلبان، لما كان بعد فترة مرُّوا عليه، وهو مع تلك المرأة في ذلك الحصن، عليه ذلّ الكفر وغبرته وقترته، فقالوا: يا [ابن عبد الرحيم] ما فعل علمك؟ ما فعلت صلاتك؟ ما فعل صيامك؟ ما فعل جهادك؟ ما فعل القرآن؟ فقال في حمأة ذل الكفر: أُنْسِيتُه، ما معي منه سوى آيتين، لكأنه المَعْنِيُ بهما (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ولقد صار لي فيهم مال وولد؛ يعني صار منهم (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، يا مصرِّف القلوب اصرف قلوبنا إلى طاعتك، يا رب ثبتنا على الإيمان، ونجِّنَا من سُبُل الشَّيطان. نسألك اللهم حُسْن الخاتمة؛ فهي –وربي- لحظات حاسمة. ونسأل الله لنا السعادة والفوز عند الموت بالشهادة. بادر قبل أن تُبَادَر. هل تنتظر إلا غنى مطغيًا، أو فقرًا منسيًا، أو هِرَمًا مفنِّدًا، أو موتًا مُجْهِزًا، أو الدَّجال فشَرُّ غائب ينتظر، أو الساعة، والساعة أدهى وأمَرُّ. إن أول قدم في الطريق بَذْل الروح، فإن كنت تستطيع على بذل الروح فتعال وبادر، وإلا فاذهب والْعب مع اللاعبين حتى يأتيك اليقين. بادر قبل أن تبادر، واصدق الله في توبتك، واجعلها نصوحًا خالصة؛ فإن الله يدعوك في عداد المؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ) ويَعِد بالفلاح على ذلك فيقول: (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
فلو داواك كل طبيب داءٍ *** بغير كلام ربي ما شفاك
الصادق في توبته لا يزال ذنبه نصب عينيه، خائفًا منه، مُشْفِقًا، وَجِلا، باكيًا، نادِمًا مستحيًا من ربه، نَاكِسًا الرأس بين يديه، دائم التَّضَرُّع إليه، واللجوء إليه، حتى يقول عدو الله إبليس: ليتني تركتُه فلم أوقعه في ذلك الذنب.
الخميس نوفمبر 28, 2013 10:09 am من طرف admin
» سيف الله المسلول
الخميس نوفمبر 28, 2013 10:01 am من طرف admin
» تفسير آيات الصيام في سوره البقرة
الخميس مايو 05, 2011 11:16 pm من طرف فهوودي
» قضية اللغة والصوت للخليل
السبت أبريل 02, 2011 10:36 am من طرف admin
» آية الصوم من سورة الأحزاب:
السبت أغسطس 21, 2010 1:50 pm من طرف ابن الازهر
» آيات الصوم من سورة المجادلة:
السبت أغسطس 21, 2010 1:43 pm من طرف ابن الازهر
» آيات الصوم من سورة المائدة:
السبت أغسطس 21, 2010 1:36 pm من طرف ابن الازهر
» آية الصوم من سورة النساء
السبت أغسطس 21, 2010 1:29 pm من طرف ابن الازهر
» كيف نستقبل شهر رمضـان ؟
الجمعة أغسطس 20, 2010 2:34 pm من طرف admin